إنّ الكلام المنمّق عن الإصرار على قوانين استعادة الأموال المنهوبة - التي يطالب بها الناهبون أنفسهم - عوضاً عن اقتراحات الهيركات، لا يعدّ إلّا هروباً إلى الأمام، يستسيغه بعض مروّجيه لإطالة أمد سطوتهم على المال العام وعلى ودائع الناس.
الهيركات و'يقظة الضمائر'""
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الهيركات وشرعيته، ويتناوب أطراف السلطة - بشقّيها الحاكم والمعارض - في الهجوم على هذا الإقتراح تحت ذريعة ما يسمّى "قدسية" أموال المودعين، فتشعر لوهلة أن هؤلاء غُيِّبَت عن أذهانهم أحداث ثلاثين سنة خلت كانوا فيها مسؤولين عن هتك هذه القدسية التي يتلطّون اليوم خلف راياتها. فهم لم يعيروا انتباها لقداسة الإيداعات عندما قضت سياساتهم بتعيين رياض سلامة حاكما لمصرف لبنان، ولم يراعوا حق ملكية الناس لأموالها عندما أجمعوا على التجديد له مرارًا كوصيّ غير أمين على هذه الإيداعات رغم التحذيرات المتكررة من سياساته الفاشلة وآثارها التراكمية، كما لم نسمع تصريحاتهم "الثورية" عندما كانت المحاصصة بينهم تنهش التعيينات المصرفية منصّبة هذا الحاكم ديكتاتورًا ماليًا دونما رقابة أو مساءلة. أمام هذا الواقع، لا يسعك إلا أن تستغرب اليقظة المفاجئة لضمير أمراء الطوائف وجنرالات الحرب الأهلية على "حقوق المودعين"، لتدرك بعد مطالعة بسيطة أن هدف بعض هذه المسرحيات دسّ سم فسادهم في عسل الإصلاح المحتمل.
قد تستطيع أن تفهم الاعتراضات على اقتراح "الهيركات" في الشق الذي يطال أصل المبالغ المودَعة في المصارف، فالتعرّض لـ"تعب الناس" يحتاج إلى دراسة عميقة تتيح أمام هذا الإقتراح مشروعية التنفيذ، مع أن أصل المبالغ المودَعة (إذا ما تكلمنا عن طبقة الـ١٪ الأعلى، التي تمتلك قرابة الـ60% من قيمة الودائع) محل نقاش، وقد يناقش البعض في أنها ما كانت لتحافظ على قيمتها لو كنا في دولة حقيقية تفرض قوانين ضريبية عادلة على الثروة والميراث والعقارات وغيرها، لا بل لو كنا بالحد الأدنى في دولة تطبق النصوص القانونية الموجودة فعلياً؛ وقد يناقش البعض الآخر في أن اقتراح "الهيركات" يكفي له أن يترافق مع تعويض المتضررين بأصل مبالغهم المودَعة من صندوق أصول الدولة المزمع تشكيله ليصبح مشروعاً. ورغم ذلك، قد يكون الإعتراض مفهوماً؛ ولكن من غير المفهوم أن يسري الاعتراض على "الهيركات" الذي يطال الفوائد على الإيداعات.
تمثّل الفوائد صلب السياسة المصرفية التي أوصلتنا إلى هذه الأزمة، إذ استفاد منها الجميع عندما كان القطاع المصرفي "مزدهراً، وكانت تعتبر مرتفعة و"غير منطقية" مقارنة بالفوائد التي قد تعرضها المصارف خارج لبنان (وقد وصلت الفوائد في بعض المصارف اللبنانية إلى ١٤٪ وهو ضعف ما يمكن أن يقدّمه أي مصرف في بريطانيا مثلًا)، والهدف من هذا الارتفاع كان - كما أصبح الجميع يعلم الآن - استقطاب الدولار بهدف الحفاظ على الهيكل المصرفيّ الهشّ. وبالتالي فإن المصارف ومن شاركها حصاد الأرباح أيام "الإزدهار"، وكان شريكاً في التغطية عليها والترويج لها كوصفات علاجية ناجعة مستغلًّا سياساتها الخاطئة بهدف مضاعفة ثرواته على مرّ السنين، لابأس بأن يكون شريكا جزئياً في الخسارة اليوم إذا ما وقع الإنهيار، ولاضير في أن تستردّ الدولة في إطار "تصحيح المسار" الأموال التي جناها كبار المودعين من دون أن تتعرض لأصل ودائعهم، وبما يتناسب مع فوائد كان المودعُ ليحصّلها في ظل نظام مصرفي يعتمد سياسة فوائد منطقية.
والإعتراض على الهيركات هنا يجعل صاحبه أمام احتمالين:
الأول: هو أن له ما له من مصالح مع هذه الطبقة المتموّلة مع ما يرافق هذا الإحتمال من شبهات.
الثاني: هو أن الجوقة المصرفية بأزلامها من سياسيين ومستشارين وأبواق نجحت بأن تستدرجه معها إلى خانة الداعمين لكبار المودعين، من دون أن يكون واعياً لأثر هذا التوجه، ومقتنعًا بصدقٍ بصوابية هذا الإعتراض. والمشكلة في الموقف السلبي من الهيركات هي أنه يضع المعترض بشكل غير مباشر في مواجهة أكثر من ٩٠٪ من المودعين الذين يتشكّل غالبهم من الفقراء وصغار المودعين والموظفين، إذ أنّ عدم لجوء الدولة إلى الهيركات لتعويض خسائرها تحت حجّة اعتراضات المعترضين على المساس بكبار المودعين، قد يدفعها إلى حلول أخرى تضطرّها لامحالة إلى التعرّض لجيوب المواطنين على شكل ضرائب لا تفرق بين غني وفقير، أو على شكل تعاميم اعتباطية صادرة عن حاكم مصرف لبنان تمثّل هيركات مبطّنا على الجميع، مع ما يمثّله ذلك من تعاظم للصعوبات المعيشية على الطبقات الوسطى والفقيرة.
هذا، وإنّ الكلام المنمّق عن الإصرار على قوانين استعادة الأموال المنهوبة - التي يطالب بها الناهبون أنفسهم - عوضاً عن اقتراحات الهيركات، لا يعدّ إلّا هروباً إلى الأمام يستسيغه بعض مروّجيه لإطالة أمد سطوتهم على المال العام وعلى ودائع الناس. أما البعض الآخر الصادق في هذا المطلب والمعارض في الوقت نفسه لتشريع الهيركات، فتطرح عليه الأسئلة التالية: ألم تصب الهندسات المالية الفاشلة في مصلحة الفوائد المرتفعة المقدّمة لكبار المودعين ولو بشكل غير مباشر؟ ثمّ ألا يعتبر مال المصرف المركزي الذي استخدم في هذه الهندسات مالاً عاماً؟ وألم تستخدم ودائع صغار المودعين المتبخّرة الآن في تلبية الفوائد المرتفعة لكبار المودعين؟ وبالتالي ألا تعتبر الأموال التي كسبها هؤلاء وراكمتها حساباتهم المصرفية بشكل غير مباشر مالاً عاماً منهوباً؟ يفترض أن تصوّب الإجابة على هذه الأسئلة طريق التائهين في زحمة الأبواق المصرفية التي يتعاظم خوفُها من مسارٍ إصلاحي جادّ يلوح في الأفق، كما يفترض أن تعرّي المتلطّين خلف شعارات وهمية يدافعون بها عن سرقتهم للمال العام وهدرهم لودائع الناس التي لم تعد سوى أرقاماً على ورق.
لكن الحديث عن الهيركات كخطوة يبقى محدود الأثر ما لم يتم تناوله في إطار خطة مالية وإقتصادية إصلاحية شاملة لا تكتفي بتعويض خسائر الدولة من الهيركات ومن رساميل المصارف فحسب، بل تتعرض بشكل مباشر للأرباح المتراكمة لأصحابها على مرّ السنين، وتصرّ على جردة شفافة لموجودات مصرف لبنان ليخضع بعدها حاكمه للمساءلة والمحاسبة، وتعمل بعد ذلك على إعادة هيكلة واقعية للقطاع المصرفي بما يتناسب مع حجم لبنان وقدراته. ولعلّ بعض بنود الخطة الاقتصادية التي أقرتها الحكومة تشكّل بداية جديّة في مخاضٍ إصلاحي عسير قد لا يكتفي المتضرّرون منه بالسكوت والمشاهدة، ما سيجعلنا هذه المرّة أمام اصطفافات علنية غير مواربة، تحتّم علينا، كشعب، مسؤولية الوقوف كخط دفاع أول عن جيوب الفقراء وأملاك الدولة أمام أحزاب الخصخصة والمصارف وكبار المودعين.
Related Posts
طالب طب في الجامعة العربية